الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: السلوك لمعرفة دول الملوك **
في المحرم: حدث بقرية جبة عسال من قرى دمشق أمر عجيب: وهو أن شابا من أهلها خرج بثور له يسقيه الماء فلما فرغ الثور من شربه حمد الله فتعجب الصبي من ذلك وحكاه فلم يصدق. فلما كان في اليوم الثاني خرج صاحب الثور به ليسقيه فشرب وحمد الله بعد فراغه فمضى به وكثر ذكر ذلك بالقرية. فخرج به في اليوم الثالث وقد حضر أهل القرية فعندما فرغ الثور من شربه سمعه الجميع وهو يحمد الله. فتقدم بعضهم وسأله فقال الثور بكلام سمعه من حضر: إن الله عز وجل كان قد كتب على الأمة سبع سنين جدباً ولكن بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم أبدلها الله تعال بالخصب. وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بتبليغ ذلك إلى الناس. قال الثور فقلت: يا رسول الله ما علامة صدقي عندهم قال: أن تموت عقيب الإخبار ثم مضى الثور إلى موضع مرتفع وسقط ميتاً فتقاسم أهل القرية شعره للتبرك به وكفنوه ودفنوه وحضر إلى قلعة الجبل محضر ثابت على قاضي الولاية بهذه الحادثة. وفي ربيع الأول: قدم البريد بوصول طائفة الأويراتية من التتار ومقدمهم طرغاي زوج بنت هولاكو وإنهم نحو الثمانية عشر ألف بيت وقد فروا من غازان ملك التتار وعبروا الفرات يريدون الشام. فكتب إلى نائب الشام أن يبعث إليهم الأمير علم الدين سنجر الدواداري إلى الرحبة ليلقاهم فخرج من دمشق ثم توجه بعده الأمير سنقر الأعسر شاد الدواوين بدمشق وخرج الأمير قراسنقر المنصوري من القاهرة أيضاً فوصل دمشق في ثاني عشريه ثم تبعه الأمير سيف الدين الحاج بهادر الحلبي الحاجب فأقام بدمشق حتى وصلت أعيان الأويراتية صحبة سنقر الأعسر في ثالث عشريه. وكانت عدتهم مائة وثلاثة عشر رجلا ومقدمهم طرغاي ومن ثم سار بهم الأمير قراسنقر إلى القاهرة يوم الإثنين سابع ربيع الآخر فلما وصلوا بالغ السلطان في إكرامهم والإحسان إليهم وأمر عدة منهم. وبقوا على كفرهم ودخل شهر رمضان فلم يصم منهم أحد وصاروا يأكلون الخيل من غير ذبحها بل يربط الفرس ويضرب على وجهه حتى يموت فيؤكل. فأنف الأمراء من جلوسهم معهم بباب القلة في الخدمة وعظم على الناس إكرامهم وتزايد بعضهم في السلطان وانطلقت الألسنة بذمه حتى أوجب ذلك خلع السلطان فيما بعد. وأما بقية الأويراتية فإنه كتب إلى سنجر الدواداري أن ينزلهم ببلاد الساحل فمر بهم على مرج دمشق وأخرجت الأسواق إليهم فنصبت بالمرج وبمنزلة الصنمين وفي الكسوة و لم يمكن أحد من الأويرايتة أن يدخل مدينة دمشق. وأنزلوا من أراضي عثليث ممتدين في بلاد الساحل وأقام الأمير سنجر عندهم إلى أن حضر السلطان إلى الشام. وقد هلك منهم عالم كبير وأخذ الأمراء أولادهم الشباب للخدمة وكثرت الرغبة فيهم لجمالهم وتزوج الناس ببناتهم وتنافس الأمراء والأجناد وغيرهم في صبيانهم وبناتهم ثم انغمس من بقي منهم في العساكر فتفرقوا في الممالك ودخلوا في الإسلام واختلطوا بأهل البلاد. وفي يوم السبت ثامن عشر جمادى الأولى: استقر في قضاء القضاة بديار مصر تقي الدين محمد بن مجد الدين علي بن وهب بن مطيع القشيري المعروف بابن دقيق العيد الشافعي بعد وفاة قاضي القضاة ذي الرياستين تقي الدين عبد الرحمن بن قاضي القضاة ذي الرياستين تاج الدين عبد الوهاب بن خلف بن بدر العلامي المعروف بابن بنت الأعز. وفي هذه السنة: اشتد الغلاء وبلغ سعر الأردب القمح المصري إلى مائة وثمانين درهما والشعير تعدي الأردب منه مائة درهم والفول بنحو تسعين درهما الأردب. وبلغ الترس ستين درهما الأردب بعد خمسة دراهم وأبيع الخبز كل رطل بدرهم نقرة وأبيع الفروج بعشرين درهما بعد ثلاثة دراهم. وذبحت فراريج للمرضى ثم وزن لحمها فوقف كل وزن درهم منها بدرهم فضة وأبيعت بطيخة صيفية للمرضى بمائة درهم فضة وأبيع الرطل منه بأربعة دراهم. وأبيعت سفرجلة بثلاثين درهما وكل رطل لحم بسبعة دراهم وكل سبع حبات من بيض الدجاح بدرهم و لم يزد سعر القمح في بلاد الصعيد الأعلى على خمسة وسبعين درهما الأردب. وهلك معظم الدواب لعدم العلف حتى لم توجد دابة للكراء وهلكت الكلاب والقطاط من الجوع. وانكشف حال كثير من الناس وشحت الأنفسي حتى صار أكابر الأمراء يمنعون من يدخل عليهم من الأعيان عند مد أسمطتهم. وكثر تعزير محتسب القاهرة ومصر لبياعي لحوم الكلاب والميتات ثم تفاقم الأمر فأكل الناس الميتة من الكلاب والمواشي وبني آدم وأكل النساء أولادهن الموتى. ورأي بعض الأمراء بباب داره امرأة لها هيئة حسنة وهي تستعطي فرق لها وأدخلها داره فإذا هي جميلة فأحضر لها رغيفا وإناء مملوءاً طعاماً أكلته كله ولم تشبع فقدم إلها مثله فأكلته وشكت الجوع فما زال يقدم لها وهي تأكل حتى اكتفت ثم استندت إلى الحائط ونامت فلما حركوها وجدت ميتة فاخذوا من كتفيها جرابا فلفوا فيه يد إنسان صغير ورجله فأخذ الأمير ذلك وصعد به القلعة وأراه السلطان والأمراء. ثم إن الأسعار انحلت في شهر رجب حتى أبيع الأردب القمح بخمسة وثلاثين درهما والشعير بخمسة وعشرين درهما الأردب. وأما النيل فإنه توقف ثم وفي ستة عشر ذراعا وكسر الخليج فنقص في يوم عيد الفطر بعد الكسر نقصا فاحشا ثم زاد. فتزايد السعر وساءت ظنون الناس وكثر الشح وضاقت الأرزاق ووقفت الأحوال واشتد البكاء وعظم ضجيج الناس في الأسواق من شدة الغلاء. وتزايد الوباء بحيث كان يخرج من كل باب من أبواب القاهرة في كل يوم ما يزيد على سبعمائة ميت ويغسل في الميضأة من الغرباء الطرحاء في كل يوم نحو المائة والخمسين ميتا ولا يكاد يوجد باب أحد من المستورين بالقاهرة ومصر إلا ويصبح على بابه عدة أموات قد طرحوا حتى يكفنهم فيشتغل نهاره. ثم تزايد الأمر فصارت الأموات تدفن بغير غسل ولا كفن فإنه يدفن الواحد في ثوب ثم ساعة ما يوضع في حفرته يؤخذ ثوبه حتى يلبس لميت آخر فيكفن في الثوب الواحد عدة أموات. وعجز الناس عن مواراة الأموات في القبور لكثرتهم وقلة من يحفر لهم فعملت حفائر كبار ألقيت فيها الأموات من الرجال والنساء والصبيان حتى تمتلئ الحفرة ثم تطم بالتراب. وانتدب أناس لحمل الأموات ورميهم في الحفر فكانوا يأخذون عن كل ميت نصف درهم فيحمله الواحد منهم ويلقيه إما في حفرة أو في النيل إن كان قريباً منه. وصارت الولاة بالقاهرة ومصر تحمل الأموات في شباك على الجمال ويعلقون الميت بيديه ورحليه من الجانبين ويرمي في الحفر بالكيمان من غير غسل ولا كفن ورمي كثير من الأموات في الآبار حتى تملأ ثم تردم. ومات كثير من الناس بأطراف البلاد فبقي على الطرقات حتى أكلته الكلاب وأكل كثيراً منها بنو آدم أيضاً وحصر في شهر واحد من هذه السنة عدة من مات ممن قدر على معرفته فبلغت العدة مائة ألف وسبعة وعشرين ألف إنسان وعظم الموتان في أعمال مصر كلها حتى خلت القرى. وتأخر المطر ببلاد الشام حتى دخل فصل الشتاء ليلة الخميس سادس صفر وهو سادس عشر كانون الأول ولم يقع المطر فتزايدت الأسعار في سائر بلاد الشام. وجفت المياه فكانت الدابة تسقي بدرهم شربة واحدة ويشرب الرجل بربع درهم شربة واحدة و لم يبق عشب ولا مرعي. وبلغ القمح كل غرارة في دمشق بمائة وسبعين درهما والخبز كل رطل وأوقتين بدرهم واللحم كل رطل بأربعة دراهم ونصف ثم إن الشيخ شرف الدين أحمد بن إبراهيم بن سباع الفزاري قرأ صحيح البخاري تحت قبة النسر بالجامع الأموي بدمشق في يوم الأحد تاسع صفر فسقط المطر في تلك الليلة واستمر عدة أيام وعقبه ثلج فسر الناس إلا أن الأسعار تزايدت ثم انحطت واشتد الغلاء بالحجاز حتى أبيعت الغرارة القمح في مكة بألف ومائتي درهم. وفي رجب: وقعت صاعقة على قبة زمزم فقتلت الشيخ علي بن محمد بن عبد السلام مؤذن الحرم وهو يؤذن على سطح القبة. وفيها قدمت أم الملك العادل سلامش بن السلطان الملك الظاهر بيبرس من بلاد القسطنطينية إلى دمشق في حادي عشر رمضان وسارت إلى القاهرة في ثامن عشره. وفيها مات الملك السعيد إيلغازي بن المظفر فخر الدين قرا أرسلان الأرتقي صاحب ماردين فكانت أيامه قريباً من ثلاث سنين وقام من بعده أخوه الملك المنصور نجم الدين عازي. وفي يوم السبت سابع عشر شوال: خرج السلطان من قلعة الجبل بعساكر مصر يريد الشام واستخلف الأمير شمس الدين كرتيه في نيابة السلطنة وولده الملك المجاهد أنص. فدخل دمشق وفيه استقر تقي الدين سليمان في قضاء الحنابلة بدمشق عوضاً عن شرف الدين حسن بن عبد الله بن محمد بن قدامة المقدسي بحكم وفاته في ثاني عشري شوال. ولما استقر السلطان بدمشق خلع في سادس عشره على الأمراء وأهل الدولة وشرع الصاحب فخر الدين الخليلي في مصادرات أهل دمشق من الولاة والشادين ورسم على سنقر الأعسر شاد الدواوين وعزل أسندمر كرجي وإلى البر وولي عوضه علاء الدين ابن الجاكي وألزم الأعسر وسائر المباشرين بأموال جزيلة. وفي رابع عشريه: قدم الملك المظفر صاحب حماة إلى دمشق فتلقاه السلطان وأكرمه وخرج عسكر كبير إلى حلب. وفي يوم الجمعة ثامن عشريه: صلى السلطان بالجامع الأموي وخلع على خطيبه قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة. وفي يوم الإثنين ثاني ذي الحجة: عزل الأمير عز الدين أيبك الحموي عن نيابة دمشق ووقعت الحوطة على خيوله وأمواله واستقر في نيابة دمشق الأمير سيف الدين أغرلو العادلي وعمره نحو الثلاثين سنة واستقر أيبك الحموي نائب دمشق على إقطاع أغرلو بديار مصر وخلع عليه وفي ثامنه: استقر في وزارة دمشق عوضاً عن تقي الدين توبة وكيل السلطان شهاب الدين وفي ثاني عشره: خرج السلطان إلى حمص ليتصيد فدخلها في تاسع عشره وحضر إليه نائب حلب وبقية النواب. وانسلخت هذه السنة والسلطان على جوسية من قرى حمص بمخيمه وكان قد اشتراها. وفيها ولي الشريف شمس الدين محمد بن شهاب الدين الحسين بن شمس الدين محمد قاضي العسكر نقابة الأشراف بديار مصر بعد وفاة الشريف عز الدين أحمد بن محمد ابن عبد الرحمن الحلبي واستقر في قضاء الحنابله بدمشق تقي الدين أبو الفضل ابن عبد الرحمن الحلبي سليمان بن حمزة بعد موت شرف الدين حسن بن عبد الله بن الشيخ أبي عمر. وفيها استقر الملك المؤيد هزبر الدين داود بن المظفر محمد بن عمر بن على مملكة اليمن بعد موت أخيه الأشرف ممهد الدين عمر. ومات في هذه السنة من الأعيان الملك الأشرف عمر بن المظفر محمد بن المنصور عمر بن علي بن رسول متملك اليمن وقد قارب سبعين سنة. وتوفي قاضي القضاة ذو الرياستين تقي الدين أبو القاسم عبد الرحمن بن تاج الدين أبي محمد وتوفي قاضي الحنابلة بدمشق شرف الدين أبو الفضائل الحسن بن عبد الله بن الشيخ أبي عمر محمد بن الحسن بن محمد بن قدامة المقدسي بدمشق عن سبع وخمسين سنة. وتوفي العلامة زين الدين أبو البركات المنجا بن عثمان بن أسعد بن المنجا التنوخي الدمشقي الحنبلي عن نحو خمس وستين سنة بدمشق. وتوفي الصاحب محيى الدين أبو عبد الله محمد بن يعقوب بن إبراهيم بن هبة الله ابن طارق بن سلامة بن النحاس الآمدي الحلبي الحنفي بدمشق عن إحدى وثمانين سنة وكانت قد انتهت إليه مشيخة فقه الحنفية وولي قضاء حلب ثم وزارة دمشق. وتوفي تاج الدين أبو عبد الله محمد بن عبد السلام بن المطهر بن أبي سعد عبد الله ابن محمد بن هبة الله بن علي بن المطهر بن أبي عصرون التميمي الموصلي الشافعي بدمشق عن خمس وثمانين سنة. وتوفي المقرىء الزاهد شرف الدين أبو الثناء محمد بن أحمد بن مبادر بن ضحاك التاذفي بدمشق عن إحدى وسبعين سنة. وتوفي السراج أبو حفص عمر بن محمد بن الحسن الوراق الشاعر عن نحو سبعين سنة. وتوفي أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الوهاب بن خلف بن محمود الشافعي الفقيه الأديب M0ن ست وتسعين وستمائة في ثاني المحرم قدم السلطان من حمص إلى دمشق. وفي يوم الجمعة رابعه: صلى صلاة الجمعة بالجامع الأموي وأخذ قصصاً كثيرة رفعت إليه ورأي بيد رجل قصة فتقدم إليه بنفسه ومشي عدة خطوات حتى أخذ القصة منه بيده. وفي سابع عشره: أنعم على الملك الكامل ناصر الدين محمد بن الملك السعيد بن الصالح عماد الدين إسماعيل بن العادل أبي بكر بن أيوب بإمرة طبلخاناه بدمشق. وفي حادي عشريه: قبض على الأمير أسندمر كرجي واعتقل بقلعة دمشق وعزل سنقر الأعسر عن شد الدواوين بدمشق واستقر عوضه الأمير فتح الدين عمر بن محمد ابن صبرة. وفي بكرة يوم الثلاثاء ثاني عشريه: رحل السلطان من دمشق بعساكره يريد القاهرة وقد توغرت صدور الأمراء وتواعدوا على الفتك به. فسار إلى أن نزل بالعوجاء قريباً من الرملة وحضر الأمراء عنده بالدهليز فأمر بإحضار الأمير بيسري فطلب طلبا حثيثاً فلما حضر لم يقم له على عادته وأغلظ له في الكلام ونسبه إلى أنه كاتب التتار فكانت بينهما مفاوضة ثم نهض السلطان وانفض الأمراء وقد حرك منهم ما كان عندهم كامناً. فاجتمعوا عند الأمير حسام لاجين النائب وفيهم بيسري وسألوه عما كان من السلطان في حق فقال: إن مماليك السلطان كتبوا عنك كتباً إلى التتار وأحضروها إليه وقالوا إنك كتبتها ونيته القبض عليك إذا وصل إلى مصر وأن يقبض على أيضاً وعلى أكابر الأمراء ويقدم مماليكه. فأجمعوا عند ذلك على مبادرة السلطان فركبوا يوم الثلاثاء سابع عشري المحرم وقت الظهر: وهم لاجين بيسري وقرا سنقر وقبجاق والحاج بهادر الحاجب في آخرين واستصحبوا معهم حمل نقارات وساقوا ملبسين إلى باب الدهليز وحركت النقارات حربياً. فركب عدة من العادلية واقتتلوا فتقدم تكلان العادلي فضربه الأمير لاجين في وجهه ضربة أخذت منه جانباً كبيراً وجرح تكلان فرس لاجين وقتل الأمير بدر الدين بكتوت الأزرق العادلي في خيمته وقتل الأمير سيف الدين بتخاص العادلي وقد فر إلى الدهليز فأدركوه بباب الدهليز فقتلوه وجرحوا عدة من المماليك العادلية. فلم يثبت العادل وخرج من ظهر الدهليز وركب فرس النوبة ببغلطاق صدر وعبر على قنطرة العوجاء يريد دمشق من غير أن يفطن به أحد و لم يدركه سوي خمسة من مماليكه. وهجم لاجين على الدهليز فلم يجد العادل وبلغه أنه فر فساق خلفه فلم يدركه ورجع إلى الدهليز فلما عاينه الأمراء ترجلوا له ومشوا في ركابه حتى نزل. فكانت مدة كتبغا منذ جلس على التخت بقلعة الجبل في يوم الأربعاء حادي عشر المحرم سنة أربع وتسعين وستمائة وإلى أن فارق الدهليز بمنزلة العوجاء في يوم الثلاثاء سابع عشري المحرم سنة ست السلطان حسام الدين لاجين السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين المنصووي المعروف بالصغير كان أولا من جملة مماليك الملك المنصور علي بن الملك المعز أيبك فلما خلع اشتراه الأمير سيف الدين قلاوون وهو أمير بسبعمائة وخمسين درهما من غير مالك شرعي فلما تبين له أنه من مماليك المنصور اشتراه مرة ثانية بحكم بيع قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز له عن المنصور وهو غائب ببلاد الأشكري. وعرف حين بيعه بشقير فربي عند قلاوون وقيل له لاجين الصغير وترقى في خدمته من الأوشاقية إلى السلاح دارية. ثم أمره قلاوون واستنابه بدمشق لما ملك وهو لا يعرف إلا بلاجين الصغير فشكرت سيرته في النيابة وأحبته الرعية لعفته عما في أيديهم فلما ملك الأشرف خليل بن قلاوون قبض عليه وعزله عن نيابة دمشق ثم أفرج عنه وولاه إمرة السلاح دار كما كان قبل استنابته على دمشق. ثم بلغه أن الأشرف يريد القبض عليه ثانياً ففر من داره بدمشق فقبض عليه وحمل إلى قلعة الجبل وأمر بخنقه قدام السلطان. ثم نجا من القتل بشفاعة الأمير بدر الدين بيدرا وأعيد إلى الخدمة على عادته واشترك مع بيدرا في قتل الأشرف خليل كما تقدم ذكره. ثم اختفى خبره مدة وتنقل في المدن إلى أن تحدث الأمير زين الدين كتبغا في أمره فعفى عنه وأعيد إلى إمرته كما كان. فلما صار زين الدين كتبغا سلطانا استقر لاجين في نيابة السلطنة بديار مصر إلى أن ركب على كتبغا وفر منه فنزل بالدهليز من العوجاء وقيل من اللجون. واجتمع الأمراء عنده وهم بدر الدين بيسري الشمسي وشمس الدين قراسنقر المنصوري وسيف الدين قبجاق وسيف الدين بهادر الحاج أمير حاجب وسيف الدين كرد وحسام الدين لاجين السلاح دار الرومي أستادار وبدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح وعز الدين أيبك الخازندار وجمال الدين أقوش الموصلي ومبارز الدين أمير شكار وسيف الدين بكتمر السلاح دار وسيف الدين سلار وسيف الدين طغي وسيف الدين كرجي وعز الدين طقطاي وسيف الدين برلطاي في آخرين حتى حملت الخزائن على البغال ورمي الدهليز. وساروا في خدمة لاجين إلى قريب المغرب ونزلوا قريباً من يازور وحضروا بأجمعهم بين يدي لاجين واتفقوا على سلطنته وشرطوا عليه أن يكون معهم كأحدهم ولا ينفرد برأي دونهم ولا يبسط أيدي مماليك ولا يقدمهم وحلفوه على ذلك. فلما حلف قال له الأمير قبجاق المنصوري: نخشى أنك إذا جلست في منصب السلطنة تنسى هذا الذي تقرر بيننا وبينك وتقدم مماليك وتخول مملوكك منكوتمر علينا فيصيبنا منه ما أصابنا من مماليك كتبغا. وكان منكوتمر مملوك لاجين وكان يوده ويؤثره وله عنده مكانة متمكنة من قلبه. فحلف لاجين مرة ثانية أنه لا يفعل ذلك ولا يخرج عما التزمه وشرطوه عليه فحلف له الأمراء وأرباب الدولة. وتلقب بالملك المنصور وركب بشعار السلطنة في يوم الثلاثاء سابع عشرى المحرم وبات تلك الليلة ورحل إلى سكرير ومنها إلى غزة يريد الديار المصرية فلما دخل غزة حمل الأمير بيسري الجتر على رأسه فخطب له بغزة والقدس وصفد والكرك ونابلس وضربت بها البشائر. وهذا وقد ركب البريد من غزة وساق الأمير سيف الدين سلار البريد إلى قلعة الجبل ليحلف من بها من الأمراء. ورسم السلطان لاجين في غزة بمسامحة أهل مصر والشام بالبواقي ثم سار منها في يوم الخميس أول صفر. ونزل ظاهر بلبيس في ثامنه وقد خرج إليه أمراء مصر وحلفوا له ثم سار منها ضحوة وبات مسجد تبر وركب بكرة يوم الجمعة تاسعه إلى قلعة الجبل. ثم ركب إلى الميدان السلطاني بشعار السلطة على العادة وشق القاهرة من باب النصر إلى باب زويلة وعليه الخلعة الخليفتية وهي جبة سوداء بزيق وأكمام واسعة والتقليد محمول بين يديه حتى عاد إلى القلعة والخليفة إلى جانبه وذلك في يوم الخميس خامس عشره. وفي يوم قدومه انحطت الأسعار إلى نصف ما هي عليه فسر الناس به فإن القمح كان أربعين درهما الأردب إلى ما دونها فأبيع بعشرين وكان الشعير بثلاثين درهما الأردب فأبيع بعشرة وكان الرطل اللحم بدرهم ونصف فأبيع بدرهم وربع ودرت الأرزاق وكثر الخير. وفوض السلطان لاجين نيابة السلطة بديار مصر إلى الأمير شمس الدين قراسنقر المنصوري واستمر بالصاحب فخر الدين بن الخليلي في الوزارة وجعل الأمير سيف الدين سلار أستادارا والأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار أمير جاندار والأمير سيف الدين بهادر الحاج حاجبا والأمير سيف الدين قبجاق المنصوري نائب الشام ومنع الوزير من الظلم وأخذ المواريث بغير حق وألا يطرح البضائع على التجار فكثر الدعاء له. وأما كتبغا فإنه قدم قبله إلى دمشق أمير شكاره وهو مجروح ليعلم الأمير أغرلو نائب دمشق بما وقع فوصل في يوم الأربعاء سلخ المحرم فكثر بدمشق القال والقيل وألبس أغرلو العسكر السلاح ووقفوا خارج باب النصر. فوصل كتبغا في أربعة أنفس قبل الغروب وصعد القلعة وحضر إليه الأمراء والقضاة وجددت له الأيمان ثم أوقع الحوطة على أموال لاجين. وقدم في أول صفر الأمير زين الدين غلبك العادلي بطائفة من المماليك العادلية وجلس شهاب الدين الحنفي وزير الملك العادل كتبغا في الوزارة بالقلعة ورتب الأمور وأحوال السلطنة. فاشتهرت بدمشق سلطنة لاجين في يوم ثالث عشره وأن البشائر دقت بصفد ونابلس والكرك. فصار كتبغا مقيماً بقلعة دمشق لا ينزل منها وبعث الأمير سيف الدين طقصبا الناصري في جماعة لكشف الخبر فعادوا وأخبروا بصحة سلطنة لاجين. فأمر كتبغا جماعة من دمشق وأبطل عدة مكوس في يوم الجمعة سادس عشره وكتب بذلك توقيعاً قرئ بالجامع. فبعث الملك المنصور لاجين من مصر الأمير سنقر الأعسر وكان في خدمته. فوصل إلى ظاهر دمشق في رابع عشره وأقام ثلاثة أيام وفرق عدة كتب على الأمراء وغيرهم وأخذ الأجوبة عنها وحلف الأمراء. وسار إلى قارا وكان بها عدة أمراء مجردين فحلفهم وحلف عدة من الناس وكتب بذلك كله إلى مصر. وسار إلى لد فأقام بها في جماعة كبيرة لحفظ البلاد ولم يعلم كتبغا بشيء من ذلك. فلما كان يوم السبت رابع عشريه: وصل الأمير سيف الدين كجكن وعدة من الأمراء كانوا مجردين بالرحبة فلم يدخلوا دمشق ونزلوا بميدان الحصا قريباً من مسجد القدم فأعلنوا باسم السلطان الملك المنصور لاجين وراسلوا الأمراء بدمشق فخرجوا إليهم طائفة بعد طائفة. وانحل أمر كتبغا فتدارك نفسه وقال للأمراء: السلطان الملك المنصور خوشداشي وأنا في خدمته وطاعته وأنا أكون في بعض القاعات بالقلعة إلى أن يكاتب السلطان ويرد جوابه بما يقتضيه فيأمري فأدخله الأمير جاغان الحسامي مكاناً من القلعة. واجتمع الأمراء بباب الميدان وحلفوا للملك المنصور وكتبوا إليه بذلك وحفظ جاغان القلعة ورتب بها من يحفظ كتبغا وغلقت أبواب دمشق كلها إلا باب النصر وركب العسكر بالسلاح ظاهر دمشق وأحاط جماعة بالقلعة خوفا من خروج كتبغا وتحيزه في جهة أخرج. وكثر كلام الناس واختلفت أقوالهم وعظم اجتماعهم بظاهر دمشق حتى أنه سقط في الخندق جماعة لشدة الزحام فيما بين باب النصر وباب القلعة فمات نحو العشرة. واستمر الحال على هذا يوم السبت المذكور ثم دقت البشائر بعد العصر على القلعة وأعلن بالدعاء للملك المنصور ودعي له على المآذن في ليلة الأحد وضربت البشائر على أبواب الأمراء. وفتحت الأبواب في يوم الأحد وحضر الأمراء والقضاة بدار السعادة وحلفوا الأمراء بحضور الأمير أغرلو نائب الشام وحلف هو وأظهر السرور. وركب أغرلو والأمير جاغان البريد إلى مصر وبلغ ذلك الأمير سنقر الأعسر بلد فنهض إلى دمشق ودخلها يوم الخميس تاسع عشريه وقد تلقاه الناس وأشعلوا له الشموع وأتاه الأعيان ونودي من له مظلمة فعليه بباب الأمير شمس الدين سنقر الأعسر. وفي يوم الجمعة أول شهر ربيع الأول: خطب بدمشق للملك المنصور. فلما كان يوج الجمعة ثامنه: وصل الأمير حسام الدين الأستادار بعسكر مصر ليحلف الأمراء فحلفوا بدار السعادة في يوم السبت تاسعه وقرئ عليهم كتاب الملك المنصور باستقراره في الملك وجلوسه على تخت الملك بقلعة الجبل واجتماع الكلمة عليه وركوبه بالتشاريف الخليفتية والتقليد بين يديه من أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد. وفي يوم الإثنين حادي عشره: وصل الأمير جاغان الحسامي من مصر وحلف كتبغا يميناً مستوفاة مغلظة بحضرة الأمير حسام الدين الأستادار والأمير سيف الدين كجكن وقاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة على أنه في طاعة الملك المنصور وموافقته وقد أخلص النية له ورضي بالمكان الذي عينه له وهو قلعة صرخد وأنه لا يكاتب ولا يشاور ولا يستفسد أحداً. وفيه استقر تقي الدين توبة في وزارة دمشق واستقر أمين الدين بن هلال في نظر الخزانة عوضاً عن تقي الدين توبه واستقر الشيخ أمين الدين يوسف الرومي في حسبة دمشق. وفي سادس عشره: وصل الأمير سيف الدين قبجق المنصوري نائب دمشق من مصر ونزل بدار السعادة على عادة النواب. وفي ليلة الثلاثاء تاسع عشره: خرج كتبغا من قلعة دمشق إلى قلعة صرخد ومعه مماليكه وجرد من دمشق معه نحو المائتي فارس ساروا به حتى عبر قلعة صرخد ثم رجعوا فكانت مدة مفارقته الدهليز من العرجاء إلى أن خلع نفسه بدمشق في يوم السبت رابع عشري صفر أربعة وثلاثين يوما وجهز إليه ابنه أنص وأهله. ووصل إلى دمشق نحو ستمائة تشريف فرقت على الأمراء والقضاة والأعيان ولبسوها يوم الإثنين ثاني شهر ربيع الآخر. وأفرج الملك المنصور عن الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير وجعله أحد الأمراء وعن الأمير سيف الدين برلغي وبعثه إلى دمشق على إمرة بها وعن الأمير سيف الدين اللقماني وعن جماعة من المماليك السلطانية الذين كانوا بدمياط والإسكندرية وبخزانة البنود من القاهرة وبخزانة شمايل. فكان لهم يوم مشهود فإنه كان فيهم خمسة وعشرون أميراً أنعم على جميعهم وخلع عليهم. وفيها أمر السلطان لاجين جماعة من مماليكه فأعطى مملوكه سيف الدين منكوتمر إمرة ومملكوه علاء الدين أيدغدي شقير إمرة ومملوكه سيف الدين جاغان إمرة ومملوكه سيف بهادر المعزي إمرة. وتقدم السلطان إلى الأمير علم الدين الدواداري بعمارة الجامع الطولوني وعين لذلك عشرين ألف دينار عينا فعمره وعمر أوقافه وأوقف منية أندونة من الأعمال الجيزية عليه ورتب فيه درس تفسير ودرس حديث نبوي وأربعة دروس فقه على المذاهب الأربعة ودرساً للطب وشيخ ميعاد ومكتب سبيل لقراءة الأيتام القرآن. وسبب ذلك إنه لما هرب في وقعة بيدرا من بر الجيزة واختفى بمنارة الجامع الطولوني وكان إذ ذاك مهدوراً لا يوقد به سوى سراج واحد في الليل ولا يؤذن أحد بمنارته وإنما يقف شخص على بابه ويؤذن فأقام به مدة لم يظهر خبره فأراد أن يكون من شكر نعمة الله عليه عمارة هذا الجامع فعمر وهو الآن بحمد الله عامر بعمارته له. وفيها كتب السلطان لاجين إلى الأشكري بالقسطنطنية أن يجهز أولاد الملك الظاهر بيبرس إلى القاهرة مكرمين فجهز الملك المسعود نجم الدين خضر ووالدته وحرمه وكان الملك العادل بدر الدين سلامش قد مات بالقسطنطنية سنة تسعين وستمائة فأحضر في تابوت مصبرا فدفن بقرافة مصر. وقدم الملك السعيد خضر إلى السلطان وسأل الإذن بالحج فأذن له وسافر مع الركب. وفيها نقل الخليفة الحاكم بأمر الله من البرج بقلعة الجبل إلى مناظر الكبش بجوار الجامع الطولوني وأجرى له ما يكفيه. وبعث إليه الملك المنصور بمال سني وصار يركب مع السلطان في الموكب.وفيها قدم من قضاة دمشق وأعيانها جماعة منهم قاضي القضاة حسام الدين أبو الفضائل الحسن بن قاضي القضاة تاج الدين أبي المفاخر أحمد بن الحسن بن أنوشروان الرازي الحنفي الرومي فولاه السلطان قضاء القضاة الحنفية بديار مصر عوضاً عن قاضي القضاة شمس الدين أحمد السروجي وعامله من الإكرام. مما لم يعامل به أحدا وأقر ولده جلال الدين أبا المفاخر على قضاء القضاة الحنفية بدمشق. وقدم أيضاً قاضي القضاة إمام الدين عمر بن عبد الرحمن بن عمر بن أحمد بن عبد الكريم القزويني الشامي - أنوشروان فعرض السلطان عليه قضاء القضاة بديار مصر فلم يقبل واختار دمشق فولاه قضاء القضاة بدمشق في رابع جمادى الأولى عوضاً عن قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة واستقر ابن جماعة في خطابة جامع دمشق وتدريس القيمرية بها. وقدم أيضاً قاضي القضاة جمال الدين يوسف الزواوي المالكي فأعيد إلى ولايته بدمشق وخلع عليه وعلى إمام الدين القزويني فعادا إلى دمشق في ثامن شهر رجب. وقدم أيضاً عز الدين حمزة بن القلانسي فأكرمه السلطان وخلع عليه واستعاد له من ورثة الملك المنصور قلاوون ما كان قد أخذ منه وعاد إلى دمشق في خامس عشري رمضان. وفيها ظهر بأرض مصر فأر كثير أتلف الزروع حتى لم يؤخذ منه إلا اليسير. وعزل الأمير فتح الدين عمر بن صبرة عن شد الدواوين بدمشق واستقر عوضه الأمير سيف الدين جاغان الحسامي في ثامن عشر رجب. وفي هذه السنة: طلب السلطان الأمير سنقر الأعسر من دمشق في شهر رجب فركب البريد إلى القاهرة. ولما حضر أكرمه السلطان وجعله من أمراء مصر ثم ولاه الوزارة بديار مصر في سادس عشريه وسلمه الصاحب فخر الدين بن الخليلي فألزمه بمائة ألف دينار وقبض على أتباعه. واشتدت حرمته وعظمت مهابته فلا يراجع ولا يخاطب إلا جوابا. وفيها توقف النيل عن الزيادة قبل الوفاء فتزايد السعر وبلغ في ذي القعدة الأردب القمح خمسة وأربعين درهماً ثم انحل السعر. وفي يوم الثلاثاء النصف من ذي القعدة: قبض على الأمير شمس الدين قراسنقر نائب السلطنة وعلى جماعة من الأمراء واعتقلوا وأحيط بموجود قراسنقر الذي بمصر والشام وضرب كاتبه شرف الدين يعقوب حتى مات تحت الضرب وضيق على نوابه ودواوينه. وأراد السلطان إقامة مملوكه الأمير سيف الدين منكوتمر الحسامي في نيابة السلطنة فعارضه الأمراء وغضبوا من منكوتمر فشق ذلك عليه وأراد تفريقهم فبعث طغريل الإيغاني إلى الكشف بالشرقية. وسنقر المساح إلى كشف الغربية وبيسري إلى كشف الجيزة ثم قبض على قراسنقر النائب والحاج بهادر وعز الدين أيبك الحموي وسنقر شاه الظاهري والأقوش وعبد الله وكوري والشيخ علي وقيدوا وولي منكوتمر النيابة من غد مسكهم في عشري ذي القعدة واستقر في نيابة السلطنة. وفيه ركب السلطان إلى الميدان ولعب بالكرة فتقنطر عن الفرس وانكسر أحد جانبي يده اليمني وتهشم بعض أضلاعه وانصدعت رجله. وخيف عليه فكسر المجبرون عظم الجانب الآخر من يده حتى يتم لهم الجبر فإنه قصر عن الجانب الآخر وكان قد توقف السلطان عن موافقتهم فقال الوزير سنقر الأعسر: أنا حصل لي مثل هذا فلما احتجت إلى كسر النصف الآخر ضربته بدقماق حديد فانكسر ثم جبر وكلمه بجفاء وغلظة واستخفاف من غير أدب فاحتمل السلطان ذلك منه وأجاب المجبرين لما قصدوه وأسر لسنقر الأعسر في نفسه. فلما كان في يوم السبت ثالث عشري ذي الحجة: قبض عليه ولم يول أحدا غيره. وفي هذه السنة: كان الأردب القمح من أربعين درهما إلى خمسين والأردب الشعير بثلاثين واللحم بدرهمين ونصف الرطل. فنزل القمح إلى عشرين والشعير إلى عشرة دراهم واللحم إلى درهم وربع. وفيها كتب بمسامحة أهل النواحي. مما عليهم من بواقي الخراج المنكسرة. وفي هذه السنة: منع السلطان من لبس الكلفتاه الزركش والطرز الزركش والأقبية الحرير العظيمة الثمن واقتصد هو وخواصه في الملبس. وجلس بدار العدل يومين في الأسبوع لسماع شكوى المتظلمين وأعرض عن اللهو جملة ومقت من يعاينه وصام شهري رجب وشعبان وتصدق في السر. ومات في هذه السنة من الأعيان قاضي القضاة الحنبلي عز الدين أبو حفص عمر بن عبد الله بن عمر بن عوض المقدسي عن خمس وستين سنة بالقاهرة في صفر. وتوفي قاضي الحنفية بحلب تاج الدين أبو المعالي عبد القادر بن عز الدين أبي عبد الله محمد بن أبي الكرم بن عبد الرحمن علوي ثلاث وسبعين سنة بحلب وهو معزول. وتوفي ضياء الدين أبو المعالي محمد بن عمد بن عبد القاهر بن هبة الله بن عبد القاهر بن عبد الواحد بن هبة الله بن طاهر بن يوسف بن النصيبي الحلبي وزير حماه عن ثمان وسبعين سنة بحلب. وتوفي جمال الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن عبد الله بن الظاهري الحلبي الحنفي شيخ الحديث عن سبعين سنة بزاويته خارج القاهرة في ربيع الأول.وتوفي عفيف الدين أبو محمد عبد السلام بن محمد بن مزروع البصري الحنبلي بالمدينة النبوية عن إحدى وسبعين سنة بعدما جاور بها خمسين سنة. وتوفي الأديب سيف الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن علي بن جعفر السامري بدمشق عن ست وسبعين سنة وكان هجاء. وتوفي الشريف الحافظ عز الدين أبو القاسم أحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن علي ابن محمد بن محمد الحسيني المعروف بابن الحلبي نقيب الأشراف بديار مصر في ومولده سنة ست وثلاثين. فيها قدم الملك المسعود نجم الدين خضر بن الملك الظاهر بيبرس من بلاد الأشكري إلى القاهرة بشفاعة أخته امرأة السلطان الملك المنصور لاجين ومعه أمه وأخوه الملك العادل سلامش وقد مات وصبر فدفن سلامش بالقرافة. وكان السلطان قد احتفل لقدومهم وأخرج الأمراء إلى لقائهم وبالغ في إكرامهم وأجرى على الملك المسعود الرواتب وجهزه للحج. وفيه توجه الأمير سيف الدين سلار أستادار إلى الكرك وأحضر ما كان بها من الأموال وقدم معه الأمير جمال الدين أقش نائب الكرك فخلع عليه وأعيد إلى نيابته.وفي حادي عشري صفر: ركب السلطان بعدما انقطع لما به من كسر يده نحو الشهرين ونزل إلى الميدان ودقت البشائر وزينت القاهرة ومصر وكتب بالبشائر إلى الأعمال بذلك. وكان يوم ركوبه من الأيام المشهودة اجتمع الناس لرؤيته من كل مكان وأخذ أصحاب الحوانيت من كل شخص أجرة جلوسه نصف درهم فضة واستأجر الناس البيوت بأموال جزيلة فرحا به فإنه كان محبباً إلى الناس. وعاد السلطان من الميدان فألبس الأمراء وفرق الصدقات في الفقراء وأفرج عن المحابيس. وفي هذا الشهر: استدعى السلطان قاضي القضاة زين الدين على بن مخلوف المالكي وصي الملك الناصر محمد بن قلاوون وقال له: الملك الناصر ابن أستاذي وأنا قائم في السلطنة كالنائب عنه إلى أن يحسن القيام بأمرها والرأي أن يتوجه إلى الكرك وأمره بتجهيزه. ثم قال السلطان للملك الناصر محمد بن قلاوون: لو علمت أنهم يخلوك سلطانا والله تركت الملك لك لكنهم لا يخلونه لك وأنا مملوكك ومملوك والدك احفظ لك الملك وأنت الآن تروح إلى الكرك إلى أن تترعرع وترتجل وتتحرج وتجرب الأمور وتعود إلى ملكك بشرط أنك تعطيني دمشق وأكون بها مثل صاحب حماة فيها. فقال له الناصر: فاحلف لي أن تبقي على نفسي وأنا أروح فحلف كل منهما على ما أراده الآخر. فخرج الناصر في أواخر صفر ومعه الأمير سيف الدين سلار أمير مجلس والأمير سيف الدين بهادر الحموي والأمير أرغون الدوادار وطيدمر جوباش رأس نوبة الجمدارية فوصل إلى الكرك في رابع ربيع الأول فقام لخدمته الأمير جمال الدين أقوش الأشرف نائب الكرك. وفي يوم الإثنين سادسه: قبض على الأمير بدر الدين بيسري الشمسي وعلى الأمير شمس الدين الحاج بهادر الحلبي الحاجب والأمير شمس الدين سنقر شاه الظاهري وسبب ذلك أن منكوتمر في مدة ضعف السلطان كان هو الذي يعلم عنه على التواقيع والكتب وصار يخشى أن يموت السلطان ولم يكن له ولد ذكر فيجعل بعده في السلطنة بيسري وكان يكره منكوتمر. فحسن منكوتمر لمن خيل السلطان من ذلك وأن يعهد لأحد فاقتضى رأيه أن يجعل الأمير منكوتمر ولي عهده ويقرن اسمه باسمه في الخطبة والسكة واستشار في ذلك الأمير بيسري فرده رداً خشناً وقال: منكوتمر لا يجيء منه جندي وقد أمرته وجعلته نائب السلطة ومشيت الأمراء والجيوش في خدمته فامتثلوه رضاء لك مع ما تقدم من حلفك ألا تقدم مماليكك على الأمراء ولا تمكنهم منهم فما قنعت بهذا حتى تريد أن تجعله سلطانا وهذا لا يوافقك أحد عليه ونهاه أن يذكر هذا لغيره وخوفه العاقبة وانصرف عنه فلشدة محبة السلطان في منكوتمر أعلمه بما كان من بيسري فأسرها في نفسه وعاداه وأخذ يدبر عليه وعلى الأمراء ويغري السلطان به وبهم.واتفق مجيء الخبر بالحلف بين المغل وخروج التجريدة إلى سيس فلما تفرق الأمراء ولم يبق من يخافه منكوتمر توجه إلى الأمير بيسري. واستمال أستاداره بهاء الدين أرسلان بن بيليك حتى صار من خواصه ورتبه فيما يقوله. ثم حسن منكوتمر للسلطان أن ينتدب بيسري لكشف جسور الجيزة فتقدم له بذلك مع أنها غض منه إذ محله أجل من ذلك فلم يأب وخرج إلى الجيزة بمماليكه وأتباعه وصار يحضر الخدمة السلطانية بالقلعة في يومي الإثنين والخميس ويجلس رأس الميمنة تحت الطواشي حسام الدين بلال المغيثي لأجل تقدمه ويعود إلى الجيزة حتى أتقن عمل الجسور. فلما تكامل إتقان الجسور استأذن بيسري السلطان في عمل ضيافة له فإذن في ذلك فاهتم لها اهتماماً زائداً ليحضر إليه السلطان بالجيزة. فأمكنت الفرصة منكوتمر ووجد سبيلا إلى بيسري فخدع أرسلان استادار بيسري ورتبه في كلام يقوله السلطان ووعده بإمرة طبلخاناه. فانخدع أرسلان ودخل مع منكوتمر إلى السلطان وقال له بأن بيسري رتب أنه يقبض عليك إذا حضرت لضيافته فتخيل السلطان من قوله. واتفق أن بيسري بعث إلى منكوتمر يطلب منه الدهليز السلطاني لينصبه السلطان في مكان المهم فبعثه إليه من غير أن يعلم السلطان. فلما مر الدهليز على الجمال من تحت القلعة ليتوجهوا فأنكر أن يكون له علم به وقال: إنما بيسري استدعى به من مقدم الفراشين وأخذه مماليكه من الفرش خاناه بغير إذن وشرع يحتج لصدق ما قاله أرسلان بهذا. فرد السلطان الدهليز إلى الفرش خاناه وغلب على ظنه صدق ما نقل له عن بيسري. ولما وقع ذلك أطلع عليه بعض الأمراء الأكابر فبعث أحدهم وهو الأمير سيف الدين طقجي الأشرفي يعلم بيسري بما جرى ويعده بأنه معه هو جماعة من الأمراء فلم يلتفت إلى قوله. فبعث أرغون أحد ممالك السلطان إلى بيسري بالخبر على جليته وحذره من الحضور إلى خدمة السلطان وأنه إن حضر أن يكون على استعداد. فلما أراده الله حضر بيسري يوم الإثنين المذكور إلى الخدمة على العادة فقام له السلطان على عادته وأجلسه بجانبه. فلما قدم السماط لم يأكل بيسري واعتذر بأنه صائم فأمر السلطان برفع مجمع من الطعام برسم فطوره فرفع له وأخذ يحادثه حتى رفع السماط. وخرج الأمراء وقام الأمير بيسري معهم فلما مشى عدة خطوات استدعاه السلطان إليه وحدثه طويلا وكان الحجاب والنقباء يستحثون الأمراء على الخروج. ثم قام بيسري من عند السلطان ومشى خطوات فاستدعاه السلطان ثانيا فعاد وحدثه أيضاً حتى علم أن المجلس والدهاليز لم يبق بها أحد سوى مماليك السلطان فقط فتركه. فقام بيسري ومشى فاعترضه سيف الدين طقجي وعلاء الدين أيدغدي شقير وعدلا به إلى جهة أخرى وقبض أيدغدي شقير على سيفه وأخذه من وسطه فنظر إليه طقجي وبكى وجبذاه إلى القاعة الصالحية فاعتقل بها. فارتجت القلعة وطار الخبر إلى القاهرة فأغلق باب زويلة وماج الناس ثم فتح باب زويلة. ووقعت الحوطة على جميع موجوده وقبض على جماعة من مماليكه ثم أفرج عنهم وأقام بيسري في القاعة مكرما وحملت إليه امرأته وهي والدة أحمد بن السلطان الملك المنصور. فما زال معتقلا حتى مات. ومن العجب أن كلا من السلطان وبيسري أتى عليه في هذه من أخص أصحابه: فإن أرسلان ابن بدر الدين بيليك أمير مجلس وكان بدر الدين هذا مملوكا للأمير بيسري ورباه بيسري كالولد حتى كبر وقدمه على أكابر مماليكه وعمله أستاداره وبالغ في الإحسان إليه حتى أنه أعطاه في يوم واحد سبعين فرسا وكان هو السبب في سلب نعمته كما ذكر. وأرغون كان أخص مماليك السلطان وأقربهم إليه فأفشى سره إلى بيسري من حنقه لأن غيره من المماليك أخذ إمرة طبلخاناه وأعلى هو إمرة عشرة فبقي في نفسه لذلك إحنة. ولما قبض على بيسري والأمراء نفرت القلوب وأكدت الوحشة موت عشرة أمراء في خمسة أيام فاتهم السلطان بأنه سمهم. وفي يوم الجمعة عاشر ربيع الآخر: أقيمت الخطة بالمدرسة المعظمية بفسخ قاسيون وفي سابع عشره: أعيد الصاحب فخر الدين عمر بن الشيخ مجد الدين عبد العزيز الخليلي إلى الوزارة بديار مصر فتتبع ألزام الأمير سنقر الأعسر وأحض أستاداره سيف الدين كيكلدي من دمشق وأحاط بموجوده. وفي جمادى الأولى: قبض السلطان على جماعة من أمراء مصر. وصرف بهاء الدين الحلي عن نظر الجيش وأخذ خطه بألف ألف درهم واستدعى عماد الدين بن المنذر ناظر الجيش بحلب واستكتب إلى أن حضر أمين الدين بن الرقاقي. وسبب ذلك أن ابن الحلي كان قد استشاره السلطان في تولية منكوتمر النيابة فقال له: إن دولة السعيد ما أخربها إلا كوندك ودولة الأشرف أخربها بيدرا ودولة العادل تلفت بسبب مماليكه ومنكوتمر شاب كبير النفس لا يرجع لأحد ويخاف من تحكمه وقوع فساد كبير. فسكت عنه السلطان وأعلم منكوتمر بذلك فأخذ منكوتمر يعاديه حتى إنه لما ولي النيابة ودخل عليه قال له: يا قاضي! هذا ببركة وعظك للسلطان فأطرق. وأخذ منكوتمر يغري السلطان به ويذكر سعة أمواله. بمصر والشام وأنه كثير اللعب. وكان ابن الحلي يحب بعض المماليك الخاصكية فترصده منكوتمر حتى علم أنه عنده فأعلم بذلك السلطان فأرسل إليه الطواشي المقدم في عدة نقباء فهجموا على بستانه بالقرب من الميدان وأخذوه والمملوك فسلم إلى الأمير أقوش الرومي وقبض على حواشيه وأحيط وفيه قدم البريد بأن رجل من قرية جينين بالساحل ماتت امرأته فلما دفنها وعاد إلى منزله تذكر أنه نسي في القبر منديلا فيه مبلغ دراهم فأخذ فقيه القرية ونش القبر ليأخذ المال والفقيه على شفير القبر فإذا بالمرأة جالسة مكتوفة بشعرها ورجلاها أيضاً قد ربطا بشعرها فحاول حل كتفها فلم يقدر فأخذ يجهد نفسه في ذلك فخسف به وبالمرأة إلى حيث لم يعلم لهما خبر فغشي على فقيه القرية مدة يوم وليلة. فبعث السلطان بخبر هذه الحادثة وما قد كتب به من الشام فيها إلى الشيخ تقي الدين محمد بن دقيق العيد فوقف عليه وأراه الناس ليعتبروا بذلك. وفيه قدم البريد من حلب بوقوع الخلف بين طقطاي وطائفة نغية حتى قتل منهم كثير من المغل وانكسر الملك طقطاي وأن غازان قتل وزيره نيروز وعدة ممن يلوذ به. فاتفق الرأي على أخذ سيس ما دام الخلف بين المغل وأن يخرج الأمير بدر الدين بكتاش أمير سلاح ومعه ثلاثة أمراء وعشرة آلاف فارس وكتب لنائب الشام بتجريد الأمير بيبرس الجالق وغيره من أمراء دمشق وصفد وطرابلس وعرض الجيش. في جمادى الأولى. فلما تجهزوا سار الأمير بدر الدين بكتاش الفخري إلى غزاة سيس ومعه من الأمراء حسام الدين لاجين الرومي الأستادار وشمس الدين أقسنقر كرتاي ومضافيهم فدخلوا دمشق في خامس جمادى الآخرة وخرج معهم منها الأمير بيبرس الجالق العجمي والأمير سيف الدين كجكن والأمير بهاء الدين قرا أرسلان ومضافيهم في ثامنه وساروا بعسكر صفد وحمص وبلاد الساحل وطرابلس والملك المظفر تقي الدين محمود صاحب حماة. فلما بلغ مسيرهم متملك سيس بعث إلى السلطان يسأله العفو فلم يجبه. ووصلت هذه العساكر إلى حلب وجهز السلطان الأمير علم الدين سنجر الدواداري بمضافيه من القاهرة ليلحق بهم فأدرك العساكر بحلب. وخرجوا منها بعسكر حلب إلى العمق وهو عشرة آلاف فارس فتوجه الأمير بدر الدين بكتاش في طائفة من عقبة بغراس إلى اسكندرونة ونازلوا تل حمدون وتوجه الملك المظفر صاحب حماة والأمير علم الدين سنجر الدوادراي والأمير شمس الدين أقسنقر كرتاي في بقية الجيش إلى نهر جهان ودخلوا جميعاً دربند سيس في يوم الخميس رابع رحب. وهناك اختلفوا فأشار الأمير بكتاش بالحصار ومنازلة القلاع وأشار سنجر الدواداري بالغارة فقط وأراد أن يكون مقدم العسكر ومنع الأمير بكتاش من الحصار ومنازلة القلاع فلم ينازعه. فوافقه بكتاش وقطعوا نهر جهان للغارة ونزل صاحب حماة على مدينة سيس وسار الأمير بكتاش إلى أذنة واجتمعت العساكر جميعها عليها بعد أن قتلوا من ظفروا به من الأرمن وساقوا الأبقار والجواميس. ثم عادوا من أذنة إلى المصيصة بعد الغارة وأقاموا عليها ثلاثة أيام حتى نصبوا جسراً مرت عليه العساكر إلى بغراس ونزلوا بمرج أنطاكية ثلاثة أيام ثم رحلوا إلى جسر الحديد يريدون العود إلى مصر.وكان الأمير بكتاش لما نازعه الدواداري في التقدمة على العساكر ومنعه من الحصار قد كتب إلى الأمير بلبان الطباخي نائب حلب بذلك ليطالع به السلطان فكتب بالخبر إلى السلطان. فورد الجواب إلى الأمراء بالإنكار على الدواداري في تقدمه على الأمير بكتاش وكونه اقتصر على الغارة وإنه لم يخرج إلا على مضافيه وأن التقدمة على سائر العساكر للأمير بكتاش وأن العساكر لا ترجع إلا بعد فتح تل حمدون وإن عادت من غير فتحها فلا إقطاع لهم بالديار المصرية. فعادت العساكر من الروج إلى حلب وأقاموا بها ثمانية أيام وتوجهوا إلى سيس من عقبة بغراس. وسار كجكن وقرا أرسلان إلى أياس وعادا شبه المنهزم فإن الأرمن أكمنوا في البساتين فأنكر عليهما الأمير بكتاش فاعتزرا بضيق المسلك والتفاف الأشجار وعدم التمكن من العدو. ثم رحل بكتاش بجميع العساكر إلى تل حمدون فوجدوها خالية وقد نزح من كان فيها من الأرمن إلى قلعة نجيمة فتسلمها في سابع رمضان وأقام بها من يحفظها وسير الأمير بلبان الطباخي نائب حلب عسكرا فملكوا قلعة مرعش في رمضان أيضاً. وجاء الخبر إلى الأمير بكتاش وهو على تل حمدون بأن واديا تحت قلعة نجيمة وحميص قد امتلأ بالأرمن وأن أهل قلعة نجيمة تحميهم فبعث طائفة من العسكر إليهم فلم ينالوا غرضاً فسير طائفة ثانية فعادت بغير طائل. فسار الأمراء في عدة وافرة وقاتلوا أهل نجيمة حتى ردوهم إلى القلعة وزحفوا على الوادي وقتلوا وأسروا من فيه ونازلوا قلعة نجيمة ليلة واحدة وسار العسكر إلى الوطأة وبقي الأمير بكتاش والملك المظفر في مقابلة من بالقلعة خشية أن يخرج أهل نجيمة فينالوا من أطراف العسكر حتى صار العسكر بالوطأة ثم اجتمعوا بها. فقدم البريد من السلطان بمنازلة قلعة نجيمة حتى تفتح فعادوا إلى حصارها واختلف الأمير بكتاش والأمير سنجر الدواداري على قتالها فقال الدواداري: متى نازلها الجيش بأسره لا يعلم من قاتل ممن عجز وتخاذل والرأي أن يقاتل كل يوم أمير بألفه. وأخذ يدل بشجاعته ويصغر شأن القلعة وقال: أنا آخذها في حجري فسلموا له واتفقوا على تقديمه لقتالها قبل كل أحد. فتقدم الدواداري إليها بألفه حتى لاحف السور فأصابه حجر المنجنيق فقطع مشط رجله وسقط عن فرسه إلى الأرض وكاد الأرمن يأخذونه إلا أن الجماعة بادرت وحملته على جنوبة إلى وطاقه ولزم الفراش فعاد إلى حلب وسار منها إلى القاهرة وقتل في هذه النوبة الأمير علم الدين سنجر طقصبا الناصري. وزحف في هذا اليوم الأمير كرتاي ونقب سور القلعة وخلص منه ثلاثة أحجار واستشهد معه ثلاثة عشر رجلا. ثم زحف الأمير بكتاش وصاحب حماة ببقيه الجيش طائفة بعد طائفة وكل منهم يردف الآخر حتى وصلوا إلى السور وعليهم الجنويات وكان قد اجتمع بها من الفلاحين ونساء القرى وأولادهم خلق كثير فلما قل الماء عندهم أخرجوا مرة مائتي رجل وثلاثمائة امرأة ومائة وخمسين صبيا فقتل العسكر الرجال واقتسموا النساء والصبيان. ثم أخرجوا مرة أخرى مائة وخمسين رجلا ومائتي امرأة وخمسة وسبعين صبيا ففعلوا بهم مثل ما فعلوا بمن تقدم. ثم أخرجوا مرة ثالثة طائفة أخرى فأتوا على جميعهم بالقتل والسبي حتى لم يتأخر بالقلعة إلا المقاتلة. وقلت المياه عندهم حتى اقتتلوا بالسيوف على الماء فسألوا الأمان فأمنوا وأخذت القلعة في ذي القعدة وسار من فيها إلى حيث أراد. وأخذ أيضاً أحد عشر حصنا من الأرمن ومنها النقير وحجر شغلان وسرقندكار وزنجفرة وحميص وسلم ذلك كله الأمير بكتاش إلى الأمير سيف الدين أسندمر كرجي من أمراء دمشق وعينه نائبا بها فلم يزل أسندمر بها حتى قدم التتار فباع ما فيها أنا آخذ عمن الحواصل ونزح عنها فأخذها الأرمن. ولما تم هذا الفتح عادت العساكر إلى حلب وكان الشتاء شديداً فأقاموا بها. وبعث السلطان إليهم الأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار والأمير عز الدين طقطاي والأمير مبارز الدين أوليا بن قرمان والأمير علاء الدين أيدغدي شقير الحسامي في ثلاثة آلاف فارس من عساكر مصر فدخلوا دمشق يوم الثلاثاء سابع عشر ذي القعدة وساروا منها إلى حلب في عشريه وفي هذه السنة: كان الروك الحسامي وذلك أن أرض مصر قد قسمت على أربعة وعشرين قيراطا وأفرد منها للسلطان أربعة قراريط وجعل للأمراء وبرسم الإطلاقات والزيادات عشرة قراريط وجعل لأجناد الحلقة عشرة قراريط فأراد السلطان الملك المنصور تغيير ذلك وأن يجعل للأمراء وأجناد الحلقة أحد عشر قيراطا ويستجد عسكرا بتسعة قراريط. فندب لروك أراضي مصر الأمير بدر الدين بيليك الفارسي الحاجب والأمير بهاء الدين قراقوش الظاهري المعروف بالبريدي وانتصب لهذا العمل جماعة من الكتاب وكان المشار إليه فيهم تاج الدين عبد الرحمن الطويل مستوفي الدولة وهو من مسالمة القبط وممن يشار إليه في معرفة صناعة الكتابة ويعتمد على قوله ويرجع إليه. فخرج الأمراء للروك ومعهم الكتاب وولاة الأقاليم في سادس عشر جمادى الأولى. وتقدم الأمير منكوتمر نائب السلطنة إلى التاج الطويل بأن يفرد للأمراء والأجناد عشرة قراريط وأن يجعل القيراط الحادي عشر برسم من يتضرر من قلة عبرة خبزه. وأفرد لخاص السلطان الأعمال الجيزية والإطفيحية والإسكندرية ودمياط ومنفلوط وكفورها وهو والكوم الأحمر من أعمال القوصية وغير ذلك وأفرد للنائب منكوتمر إقطاع عظيم من جملته مرج بني هميم وكفور وسمهود وكفورها وحرجة قوص ومدينة أدفو وما في هذه النواحي من الدواليب وكان متحصلها ينيف على مائة ألف أردب وعشرة آلاف أردب من الغلة خارجا عن المال العين والقنود والأعسال والتمر والأغنام والأحطاب. وكان في خاصه سبعة وعشرون معصرة لقصب السكر سوى ما له من المشتريات والمتاجر وما له ببلاد الشام من الضياع والعقار وما يرد إلية من التقادم. فلما انتهي الروك في ثامن رجب فرقت مثالات الأمراء. وفي تاسعه: فرقت مثالات مقدمي الحلقة.
|